قال: (بل كانوا لا يشكون في خبر
أبي هريرة رضي الله عنه مع تفرده بكثير من الأحاديث) ف
ـأبو هريرة رضي الله تعالى عنه تفرد بكثير من الحديث الذي لم يقله أو لم ينقله أو لم يروه غيره والسبب أن هؤلاء الصحابة كان يشغلهم الصفق بالأسواق أي: كانوا أهل مصالح ولا بد منها في دنياهم حتى كان
عمر رضي الله تعالى عنه له أخ من الأنصار فيجعله يذهب يوماً وهو يذهب يوماً حتى لا يفوته شيء من الخير، فمنهم من له أخ ينوبه أو يحفظ بنفسه، وبعضهم يذهبون في مصالحهم فربما سمعوا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة جمعة، أو في مجلس عام جمع الناس له، أو وهم في طريق، أو في غزوة معه أو ما أشبه ذلك أما الملازمة الدائمة فيقول
أبو هريرة عنها: [
إن أولئك شغلهم الصفق بالأسواق وإنما كان أبو هريرة يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بملء بطنه ] أي: من أجل لقيمات يجدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أينما ذهب فهو معه، يحفظ، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان لا ينسى، وكان ملازماً له فحفظ منه كما حفظ من الصحابة أيضاً، فإنه أيضاً لازم وحفظ من كبار الصحابة، فبعض الأحاديث التي رواها
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه هي مما وقع وقاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه وقبل هجرته إلى
المدينة ، ومع ذلك فإنه يرويها، وهذا دليل على أنه أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كذلك عن سائر الصحابة كـ
أبي بكر و
عمر وأم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها وغيرها من أمهات المؤمنين، فجمع من الحديث ما لم يجمعه غيره رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك لم يكونوا يشكون فيما يتفرد به، فيقولون: يا
أبا هريرة ! أنت واحد ولا نقبل خبرك حتى يتواتر، لكن ربما اعترض عليه منهم معترض وتوقفوا في الحديث، وهذا ليس من باب رد خبر الواحد، وإنما لقيام قرينة أو علة أخرى.يقول رحمه الله: (وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك) يعني: أن يقابل بالرد أو الاستنكار، وكانت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في أعينهم وأصدق عندهم من أن ترد. فالصحابة اعتبروا أمرين:الأول: إجلال كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال حديثه أن يقال: هذا غير مقبول، أو من أين جئت به، وكل ذلك إجلالاً منهم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فهو على العين والرأس، فإن شكوا فإنما يتساءلون حتى يتأكدوا، أما النفي أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو مخالف للعقل ومخالف للبراهين، وهذا لا يمكن أن يكون منهم.الأمر الثاني: إجلالهم وتقديرهم للمخبر عنه صلى الله عليه وسلم من الصحابة، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات التي هي موضع الجدل والمعركة بين المثبتين المؤمنين وبين
المعطلة الجاحدين تلقاه بالقبول، واعتقد تلك الصفة على القطع واليقين، كما اعتقدوا رؤية الرب في أحاديث إثبات رؤية الرب سبحانه وتعالى، وهذه الروايات لم يروها كل أحد من الصحابة، إنما رواها بعضهم لبعض، فماذا كان موقفهم وموقف التابعين من ذلك؟ الجواب: أنهم اعتقدوا صحة ذلك، وآمنوا به وسلموا، وكذلك الحال في أحاديث تكليمه وندائه يوم القيامة في عباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب كما في الحديث: (
فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب )، فهم قد آمنوا بذلك وصدقوا مع أنه ليس كل واحد منهم روى ذلك، بل هم آحاد، وأحاديث نزوله إلى السماء الدنيا كل ليلةٍ كذلك أيضاً لم يروها كلهم، وكذلك أحاديث ضحكه وفرحه وإمساك سماواته على أصبع من أصابع يده، وروايات إثبات القدم له، كل هذه أحاديث لم يروها كل أحد من الصحابة، وإن كان بعضها بمجموعه متواتراً، لكن الرواية الواحدة منه إنما رواها واحد، وقد يكون التواتر فيما بعد الصحابي، أي: من التابعين أو من أتباع التابعين، أو يكون التواتر في الطبقة الثالثة.يقول رحمه الله: (من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق، ولم يتردد فيها حتى أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام).يعني: نحن نستطيع أن نعكس الدليل على المتكلمين، فإذا جاء
الرازي أو غيره ممن أصلوا وقرروا هذه القواعد البدعية، فقالوا: إن
عمر رضي الله تعالى عنه تثبت من خبر
أبي موسى ، وأن
أبا بكر تثبت من رواية
المغيرة وغير ذلك، فنقول: لهم هذا نفسه دليل على صحة ما نقول؛ لأنهم إنما تثبتوا في الأحكام مع أن وقوع التثبت قليل نادر كما ذكرنا، لكنهم لم يتثبتوا في الأمور الخبرية وفي أعظم الأخبار وأشرفها كالصفات ونحوها؛ لأنها تتعلق بمعرفة الله تبارك وتعالى، وهي أم العلوم وأشرفها، فهذا دليل لنا وليس لكم، فإذاً: نقول: ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام حتى استظهر راويها بآخر، كما استظهر
أبو موسى برواية
أبي سعيد الخدري في خبر الاستئذان، وكما استظهر
المغيرة رضي الله تعالى عنه برواية
محمد بن مسلمة في توريث الجدة السدس، ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات، لكن لأن الأم أحياناً تأخذ الثلث، وأحياناً تأخذ السدس، والجدة تأخذ السدس.يقول
ابن القيم رحمه الله: (بل ما كان أحد يطلب منه ويقول له: كيف تخبر بهذا الحديث عن الله أو عن صفات الله؟ بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلقونه بكل إذعان وقبول، ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر بذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع).